«لو…» بين العقاد والرَّافعي

«لو…» بين العقاد والرَّافعي

بقلم: رشيد سكري

ـ 1 ـ
في كتاب «ساعاتٌ بين الكتب» لعباس محمود العقاد (1889 ـ 1964)، الذي أطبقتْ شُهرته كلَّ الآفاق، تناول فيه صاحبُه مقالا مثيرا، عنونه بـ«لو…». هذه الأخيرة، حسب العقاد، لها حضور قوي في حياة الأفراد وفي حياة الأمم كذلك. مركزا على حدثين بارزين، غيرا مجرى تاريخ أوروبا بعامة.
كان منطلقُ العقادِ بسيطا للغاية، حيث أشار، في البداية، إلى الأحداث الخطيرة، التي تتربص بالإنسان في حياته اليومية. لولا بعض المصادفات، مجهولة المصدر، لعاش المرءُ حقيقة شقائه وسعادته أو نجاحه وإخفاقه، غير أن هذه الصُّدَف، حسب العقاد، غالبا ما تحفر سمتا مبهما وغامضا، بل معقدا في تشكيل رؤية العالم منذ فجر الخليقة؛ لاسيما أن التاريخ الإنساني بعامّة، يعجُّ بأحداث وصراعات نجهل ما وراءها من أسباب ومسببات، إلا أن الشيء الذي لا يُماط عنه اللثام هو فعلَها السّحري في تغيير مجرى التاريخ الإنساني برمَّته .
ففي إشارة طريفة، جاءت في المقال، واعتبرها العقادُ من الأقوال المشهورة، أنه لو اختلف أنف كليوباترا في الطول أو القصر بمقدار قيراط واحد ؛ لذهب معه جمالـُها الآسر الفاتن. ولاختلف معه، أيضا، تاريخُ المسيحيّة والعالمُ بأسره. وتبعا لذلك، ففتنة الجمال الكليوباتري كان المصدر الرئيس لمعركة «أكتيوم» الشهيرة، التي دارت رحاها بين الغريمين العاشقين يوليوس القيصر ومارك أنطونيوس. فلولا هذه المعركة لظلت روما تدين بدين غير المسيحية، وما تمكن القديس بولس من أن يوسّع حملاته التبشيرية في الشرق العربي. فنونية ذقن كليوباترا ودالية أنفها الأثيل أشعلا الفتنة في سدرة المنتهى، وتغيرت معه معالمُ العالم بأسره .
أما الحدث الثاني، الذي بسط فيه العقادُ اهتماماته التاريخيَّة، فمتعلق بالتأثير المباشر لفلاسفة الأنوار، في المجتمع الفرنسي خلال القرن الثامن عشر. مُبئرا تحليلاته على المنظر الأول للثورة الفرنسية جان جاك روسو (1712 ـ 1778)، باعث الديمقراطية في حياة الفرنسيين. يقول العقادُ: «فلو استطاع روسو في مساء 14 مارس/آذار 1728 أن يتقدم عشرين خطوة إلى باب جنيف، لبقي صبيا يتعلم الحفر، ويعول على النبوغ، وقلَّما يخطر له خاطر الكتابة والتأليف». فمن باب الصُّدفة أن يُطرد روسو من ملجأ الأيتام؛ نظرا لتأخُّره المتكرر وعدم انضباطه للناموس الداخلي، الذي يسيّر الملجأ. وتبعا لذلك، فمدخل المدينة يوصد في الثامنة مساء؛ فلو تقدم روسو عشرين خطوة إلى الأمام في اتجاه باب جنيف، ما طـُرد خارج أسوار الملجأ شر طردة. بمقتضى ذلك، عاش حياة التشرد والضياع، بما هي الأقنوم والحافز؛ الذي دفعه نحو امتهان الكتابة والتأليف والإبداع.
ـ 2 ـ
أمَّا «لو …» عند مصطفى صادق الرَّافعي (1880ـ 1937) في «وحي القلم» الجزء الثاني، فقد هيمن فيها السياسي في بعديه العربي والإسلامي. موجِّها أسياخَ انتقاداته إلى الذات المصريّة، مقابل الآخر الإنكليزي، الذي يتمتع بالحرية والعزيمة الفولاذية. علاوة عن تصوير النقائص، التي يرسف فيها المواطن المصري، وتحد من طموحاته الفكريّة والمعرفيّة. لهذا السبب يقول الرَّافعي: «رأيتهم هناك ينقدون العيوب، بما ينشئ عيوبا جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة، ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية، تكون عمى ظاهرا عما هي به من الحقيقة».
وتبعا لذلك، تحجَّج الرّافعي بحجَّج منطقيّة، صادرة عن وعي ظاهر بأهمية البناء المنطقي؛ بهدف الاستدلال والبرهنة على صحة الطـَّرح، الذي ينتصر إليه. وهكذا، كانت النكتة الهزلية، حسب الرافعي، الخالية من المعنى، لا تولـِّد إلا الضَّحك الأصفر المصنوع والسَّخيف؛ لأنها تفتقد، في جوهرها، روحَ الدَّعابة والخفة، اللذين يشكلان معية المعنى أقنوم الحياة المرحة؛ بعيدة عن أن تكون لهوا وعبثا مجَّانيا. فلو كانت النـُّكتة، وهي أصغر حدث يعيشه الإنسان في محيطه الاجتماعي والجماعي، تنهلُ من المعنى الحقيقي للوجود؛ لكان لحياتنا مغزى عميق وجوهري، نستشرف من خلاله الحياة الشائقة ميْسمها روح المسؤولية، والإحساس بالواجب تجاه الذات وتجاه الوطن. إن الحكمة التي يريد الرافعي أن يدمغ بها نصَّه هي أن الجد لا يؤخذ من هزلية الحياة، كما أن العظمة لا تستخرج من سفائف الأمور، وأن الفلسفة لا تُعرف من حماقاتها. فلو كانت الأمور تسري في هذا المنحى؛ لما ظهرت على الإنكليزي مخايل الظفر والحكمة، أو لما عنت لنا فيه معاني العزم والمجد في الحياة .
وفي جانب آخر، وسّع الرَّافعي من طرحه؛ ليشمل الشبابَ العربيَّ، مؤكدا أنه من الضروري أن يحاربوا اللهوَ والإسفافَ في الأمور، بما هي أولى المعارك السياسيَّة الضارية والحاسمة، التي تنتظر بُناة الوطن. فلو أدرك الشباب ذلك؛ لتحققت العزائم ونِيلت المكارم والمجد. وهذا لن يتأتى، إلا إذا استوعبَ الشبابُ العربي قيمة الشعب أولا، لا قيمة الفرد.
في هذا المسعى، مزج الرَّافعي بين القضية الأولى للأمة العربية وطموح العالم الإسلامي. على اعتبار أن القضية الفلسطينيّة هي جزء من قضايا وهموم الأمة الاسلاميّة، ليرتفع منسوبَها كي تصبحَ، من أجل ذلك، شأنا إنسانيَّا بعامة. ومنه، خلصَ الرَّافعي إلى استنتاج، قال فيه: «لو صام العالم الإسلامي كله يوما واحدا، وبذل نفقات هذا اليوم الواحد لفلسطين، لأغناها». راوحتْ «لو …» بين عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرَّافعي بهدف إبراز تيارين فكريين كبيرين، تربَّعا على عرش تاريخ الأدب العربي، لما يزيد عن أربعة عقود من الزمن. وبصما، ببصيرتهما النقديَّة، قرائحَ نقاد ناشئين، تتلمذوا على إثر هذه الزوابع الفكرية، التي مازالت لم ينطفئ أ ُوَارها. فـ«لو …» هي امتناع لشرط، وامتناع لجواب أيضا. فالشرط يكمن في الفكر العقلاني، الذي يجعل من العقل نبراسا يستضاء به في عتـْمة هذا الوجود. فلو أدرك جان جاك روسو مضمون الإنذار، الذي تلقاه من إدارة الملجأ، لما عاشت فرنسا ما تعيشه، اليوم، من تقدم وازدهار وديمقراطية. بينما الجوابُ يكون ثاويا في الفكر المحافظ، الذي تشبَّع به الرَّافعي؛ سليل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. فالصيامُ جُنَّة ينفعُ به المرءُ نفسه، وينفعُ به الآخرُ أيضا.
لذا، ستظل «لو …» تنوس بين فكرين كبيرين، أقاما الدنيا وشغلا الناسَ.

القدس العربي



from خبر24 https://ift.tt/2OuZDvL
via IFTTT

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

“ إبداعك المرئي: شرح لبرنامج صانع الفيديو

أمير الرياض يشرف حفل السفارة الألمانية

هاتف جالكسي نوت 9 يبدأ رسميًا في استلام تحديث OneUI 2.1 الكبير